فصل: تفسير الآية رقم (272):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (272):

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)}
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ} هذا الكلام متصل بذكر الصدقات، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين. روى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم». فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام. وذكر النقاش أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطني. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ليس لك من صدقة المسلمين شي». فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ} فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاه، ثم نسخ الله ذلك بآية الصدقات.
وروى ابن عباس أنه قال: كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بنى قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب أولئك.
وحكى بعض المفسرين أن أسماء ابنة أبى بكر الصديق أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ثم امتنعت من ذلك لكونه كافرا فنزلت الآية في ذلك.
وحكى الطبري أن مقصد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ}.
وقيل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ} ليس متصلا بما قبل، فيكون ظاهرا في الصدقات وصرفها إلى الكفار، بل يحتمل أن يكون معناه ابتداء كلام.
الثانية: قال علماؤنا: هذه الصدقة التي أبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوع. وأما المفروضة فلا يجزئ دفعها لكافر، لقوله عليه السلام: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم واردها في فقرائكم». قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك ولم يذكر خلافا.
وقال المهدوي: رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة لهذه الآية. قال ابن عطية: وهذا مردود بالإجماع. والله أعلم.
وقال أبو حنيفة: تصرف إليهم زكاة الفطر. ابن العربي: وهذا ضعيف لا أصل له. ودليلنا أنها صدقة طهرة واجبة فلا تصرف إلى الكافر كصدقة الماشية والعين، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أغنوهم عن سؤال هذا اليوم» يعني يوم الفطر.
قلت: وذلك لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد وهذا لا يتحقق في المشركين. وقد يجوز صرفها إلى غير المسلم في قول من جعلها سنة، وهو أحد القولين عندنا، وهو قول أبى حنيفة على ما ذكرنا، نظرا إلى عموم الآية في البر وإطعام الطعام وإطلاق الصدقات. قال ابن عطية: وهذا الحكم متصور للمسلمين مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين.
قلت: وفى التنزيل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا.
وقال تعالى: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}. فظواهر هذه الآيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة، إلا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خص منها الزكاة المفروضة، لقوله عليه السلام لمعاذ: «خذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم» واتفق العلماء علن ذلك على ما تقدم. فيدفع إليهم من صدقة التطوع إذا احتاجوا، والله أعلم. قال ابن العربي: فأما المسلم العاصي فلا خلاف أن صدقة الفطر تصرف إليه إلا إذا كان يترك أركان الإسلام من الصلاة والصيام فلا تدفع إليه الصدقة حتى يتوب. وسائر أهل المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبيها لدخولهم في اسم المسلمين. وفى صحيح مسلم أن رجلا تصدق على غنى وسارق وزانية وتقبلت صدقته، على ما يأتي بيانه في آية الصدقات.
الثالثة: قوله تعالى: {وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} أي يرشد من يشاء. وفى هذا رد على القدرية وطوائف من المعتزلة، كما تقدم.
قوله تعالى: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ} شرط وجوابه. والخير في هذه الآية المال، لأنه قد اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم تقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، نحو قوله تعالى: {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} وقوله: {مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}. إلى غير ذلك. وهذا تحرز من قول عكرمة: كل خير في كتاب الله تعالى فهو المال.
وحكى أن بعض العلماء كان يصنع كثيرا من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرا، فقيل له في ذلك فيقول: إنما فعلت مع نفسي، ويتلو {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ}. ثم بين تعالى أن النفقة المعتد بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجهه. و{ابْتِغاءَ} هو على المفعول له.
وقيل: إنه شهادة من الله تعالى للصحابة رضي الله عنهم أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجهه، فهذا خرج مخرج التفضيل والثناء عليهم. وعلى التأويل الأول هو اشتراط عليهم، ويتناول الاشتراط غيرهم من الامة. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد بن أبى وقاص: «إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك».
قوله تعالى: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} تأكيد وبيان لقوله: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} وأن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين ولا يبخسون منه شيئا فيكون ذلك البخس ظلما لهم.

.تفسير الآية رقم (273):

{لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لِلْفُقَراءِ} اللام متعلقة بقوله: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} وقيل: بمحذوف تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء. قال السدى ومجاهد وغيرهما: المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقراء غابر الدهر. وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم وهم أهل الصفة وكانوا نحوا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يقدمون فقراء على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل لهم: أهل الصفة. قال أبو ذر: كنت من أهل الصفة وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأمر كل رجل فينصرف برجل ويبقى من بقي من أهل الصفة عشرة أو أقل فيؤتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعشائه ونتعشى معه. فإذا فرغنا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ناموا في المسجد». وخرج الترمذي عن البراء بن عازب {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل، قال: فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فيضربه بعصاه فيسقط من البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه في المسجد، فأنزل الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}. قال: ولو أن أحدكم أهدى إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلا على إغماض وحياء. قال: فكنا بعد ذلك يأتي الرجل بصالح ما عنده. قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. قال علماؤنا: وكانوا رضي الله عنهم في المسجد ضرورة، وأكلوا من الصدقة ضرورة، فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال وخرجوا ثم ملكوا وتأمروا. ثم بين الله سبحانه من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والمعنى حبسوا ومنعوا. قال قتادة وابن زيد: معنى: {أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حبسوا أنفسهم عن التصرف في معايشهم خوف العدو، ولهذا قال تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} لكون البلاد كلها كفرا مطبقا.
وهذا في صدر الإسلام، فعلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد، وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة فبقوا فقراء.
وقيل: معنى: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} أي لما قد ألزموا أنفسهم من الجهاد. والأول أظهر. والله أعلم.
الثانية: قوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أي أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء. وفيه دليل على أن اسم الفقر يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة ولا يمنع ذلك من إعطاء الزكاة إليه. وقد أمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مرضى ولا عميان. والتعفف تفعل، وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه، وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره. وفتح السين وكسرها في: {يَحْسَبُهُمُ} لغتان. قال أبو على: والفتح أقيس، لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتى في المضارع مفتوحة. والقراءة بالكسر حسنة، لمجيء السمع به وإن كان شاذا عن القياس. و{من} في قوله: {مِنَ التَّعَفُّفِ} لابتداء الغاية. وقيل لبيان الجنس.
الثالثة: قوله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ} فيه دليل على أن للسيما أثرا في اعتبار من يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتا في دار الإسلام وعليه زنار وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}. فدلت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب وكسوة وزي في التجمل. واتفق العلماء على ذلك، وإن اختلفوا بعده في مقدار ما يأخذه إذا احتاج. فأبو حنيفة اعتبر مقدار ما تجب فيه الزكاة، والشافعي اعتبر قوت سنة، ومالك اعتبر أربعين درهما، والشافعي لا يصرف الزكاة إلى المكتسب. والسيما مقصورة: العلامة، وقد تمد فيقال السيماء. وقد اختلف العلماء في تعيينها هنا، فقال مجاهد: هي الخشوع والتواضع. السدى: أثر الفاقة والحاجة في وجوههم وقلة النعمة. ابن زيد: رثاثة ثيابهم.
وقال قوم وحكاه مكي: أثر السجود. ابن عطية: وهذا حسن، وذلك لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم.
قلت: وهذه السيما التي هي أثر السجود اشترك فيها جميع الصحابة رضوان الله عليهم بإخبار الله تعالى في آخر الفتح بقوله: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} فلا فرق بينهم وبين غيرهم، فلم يبق إلا أن تكون السيماء أثر الخصاصة والحاجة، أو يكون أثر السجود أكثر، فكانوا يعرفون بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار. والله أعلم. وأما الخشوع فذلك محله القلب ويشترك فيه الغنى والفقير، فلم يبق إلا ما اخترناه، والموفق الاله.
الرابعة: قوله تعالى: {لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً} مصدر في موضع الحال، أي ملحفين، يقال: ألحف وأحفى وألح في المسألة سواء، ويقال:
وليس للملحف مثل الرد

واشتقاق الإلحاف من اللحاف، سمى بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف من التغطية، أي هذا السائل يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك، ومنه قول ابن أحمر:
فظل يحفهن بقفقفيه ** ويلحفهن هفهافا ثخينا

يصف ذكر النعام يحضن بيضا بجناحيه ويجعل جناحه لها كاللحاف وهو رقيق مع ثخنه.
وروى النسائي ومسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرءوا إن شئتم {لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً}».
الخامسة: واختلف العلماء في معنى قول: {لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً} على قولين، فقال قوم منهم الطبري والزجاج: إن المعنى لا يسألون البتة، وهذا على أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة، وعلى هذا جمهور المفسرين، ويكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح.
وقال قوم: إن المراد نفى الإلحاف، أي إنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين. وفى هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا. روى الأئمة واللفظ لمسلم عن معاوية بن أبى سفيان قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته منى شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته». وفى الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء ابن يسار عن رجل من بنى أسد أنه قال: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي: أذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاسأله لنا شيئا نأكله، وجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «لا أجد ما أعطيك» فتولى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول: لعمري إنك لتعطي من شئت! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنه يغضب على ألا أجد ما أعطيه من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا». قال الأسدي: فقلت للقحة لنا خير من أوقية- قال مالك: والأوقية أربعون درهما- قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك بشعير وزبيب فقسم لنا منه حتى أغنانا الله. قال ابن عبد البر: هكذا رواه مالك وتابعه هشام بن سعد وغيره، وهو حديث صحيح، وليس حكم الصحابي إذا لم يسم كحكم من دونه إذا لم يسم عند العلماء، لارتفاع الجرحة عن جميعهم وثبوت العدالة لهم. وهذا الحديث يدل على أن السؤال مكروه لمن له أوقية من فضة، فمن سأل وله هذا الحد والعدد والقدر من الفضة أو ما يقوم مقامها ويكون عدلا منها فهو ملحف، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا وهو يكره السؤال لمن له هذا المقدار من الفضة أو عدلها من الذهب على ظاهر هذا الحديث. وما جاءه من غير مسألة فجائز له أن يأكله إن كان من غير الزكاة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا، فإن كان من الزكاة ففيه خلاف يأتي بيانه في آية الصدقات إن شاء الله تعالى.
السادسة: قال ابن عبد البر: من أحسن ما روى من أجوبة الفقهاء في معاني السؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل وقد سئل عن المسألة متى تحل قال: إذا لم يكن عنده ما يغذيه ويعشيه على حديث سهل بن الحنظلية. قيل لابي عبد الله: فإن اضطر إلى المسألة؟ قال: هي مباحة له إذا اضطر. قيل له: فإن تعفف؟ قال: ذلك خير له. ثم قال: ما أظن أحدا يموت من الجوع! الله يأتيه برزقه. ثم ذكر حديث أبى سعيد الخدري: «من استعف أعفه الله». وحديث أبى ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «تعفف». قال أبو بكر: وسمعته يسأل عن الرجل لا يجد شيئا أيسأل الناس أم يأكل الميتة؟ فقال: أيأكل الميتة وهو يجد من يسأله، هذا شنيع. قال: وسمعته يسأله هل يسأل الرجل لغيره؟ قال لا، ولكن يعرض، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار فقال: «تصدقوا» ولم يقل أعطوهم. قال أبو عمر: قد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشفعوا تؤجروا». وفيه إطلاق السؤال لغيره. والله أعلم. وقال: «ألا رجل يتصدق على هذا؟» قال أبو بكر: قل له- يعني أحمد بن حنبل- فالرجل يذكر الرجل فيقول: إنه محتاج؟ فقال: هذا تعريض وليس به بأس، إنما المسألة أن يقول أعطه. ثم قال: لا يعجبني أن يسأل المرء لنفسه فكيف لغيره؟ والتعريض هنا أحب إلى.
قلت: قد روى أبو داود والنسائي وغيرهما أن الفراسى قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسأل يا رسول الله؟ قال: «لا وإن كنت سائلا لأبد فاسأل الصالحين». فأباح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سؤال أهل الفضل والصلاح عند الحاجة إلى ذلك، وإن أوقع حاجته بالله فهو أعلى. قال إبراهيم بن أدهم: سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين الله تعالى، فأنزل حاجتك بمن يملك الضر والنفع، وليكن مفزعك إلى الله تعالى يكفيك الله ما سواه وتعيش مسرورا.
السابعة: فإن جاءه شيء من غير سؤال فله أن يقبله ولا يرده، إذ هو رزق رزقه الله. روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء فرده، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لم رددته؟ فقال: يا رسول الله، أليس أخبرتنا أن أحدنا خير له ألا يأخذ شيئا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إنما ذاك عن المسألة فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله. فقال عمر بن الخطاب: والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ولا يأتيني بشيء من غير مسألة إلا أخذته». وهذا نص. وخرج مسلم في صحيحه والنسائي في سننه وغيرهما عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه منى، حتى أعطاني مرة مالا فقلت: أعطه أفقر إليه منى، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك». زاد النسائي- بعد قوله: «خذه فتموله أو تصدق به».
وروى مسلم من حديث عبد الله بن السعدي المالكي عن عمر فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدق». وهذا يصحح لك حديث مالك المرسل. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف» أي الاشراف أراد؟ فقال: أن تستشرفه وتقول: لعله يبعث إلى بقلبك. قيل له: وإن لم يتعرض، قال نعم إنما هو بالقلب. قيل له: هذا شديد! قال: وإن كان شديدا فهو هكذا. قيل له: فإن كان الرجل لم يعودني أن يرسل إلى شيئا إلا أنه قد عرض بقلبي فقلت: عسى أن يبعث إلى. قال: هذا إشراف، فأما إذا جاءك من غير أن تحتسبه ولا خطر على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف. قال أبو عمر: الاشراف في اللغة رفع الرأس إلى المطموع عنده والمطموع فيه، وأن يهش الإنسان ويتعرض. وما قاله أحمد في تأويل الاشراف تضييق وتشديد وهو عندي بعيد، لأن الله عز وجل تجاوز لهذه الامة عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله جارحة. وأما ما اعتقده القلب من المعاصي ما خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل له، وخطرات النفس متجاوز عنها بإجماع.
الثامنة: الإلحاح في المسألة والإلحاف فيها مع الغنى عنها حرام لا يحل. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر» رواه أبو هريرة خرجه مسلم. وعن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» رواه مسلم أيضا.
التاسعة: السائل إذا كان محتاجا فلا بأس أن يكرر المسألة ثلاثا إعذارا وإنذارا والأفضل تركه. فإن كان المسئول يعلم بذلك وهو قادر على ما سأله وجب عليه الإعطاء، وإن كان جاهلا به فيعطيه مخافة أن يكون صادقا في سؤاله فلا يفلح في رده.
العاشرة: فإن كان محتاجا إلى ما يقيم به سنة كالتجمل بثوب يلبسه في العيد والجمعة فذكر ابن العربي: سمعت بجامع الخليفة ببغداد رجلا يقول: هذا أخوكم يحضر الجمعة معكم وليس عنده ثياب يقيم بها سنة الجمعة. فلما كان في الجمعة الأخرى رأيت عليه ثيابا أخر، فقيل لي: كساه إياها أبو الطاهر البرسنى أخذ الثناء.